Mustafa Al Odaili – مدونة مصطفى العديلي

كاتب، مدير محتوى إلكتروني

الوظيفة .. أم المشروعات التجارية؟

Published by

on

التاريخ: 18/12/2023

على مدار محطات الحياة، يفف أشخاص كثر محتارين أمام هذا السؤال، وقد يصعب عليهم الاختيار بينهما في ظل الظروف المختلفة مثل العائلة والأصدقاء والاقتصاد والتخصص والخبرة وغيرها.

في هذا المقال سأحاول أن أجاوب عن هذا السؤال الذي حيرني شخصيًا لسنين عديدة، وسأتخذ بعض الدراسات والإحصاءات كمصادر من جهة، وعلى خبرتي المتواضعة التي تجاوزت 11 عامًا من جهة ثانية، على المنطق والواقع من جهة ثالثة. برأيي، أي جواب سيعتمد على مجال الشخص نفسه، فالمثل يقول: “لا يمدح السوق إلا الربحان فيه”، ولكن للحصول على أفضل نتيجة يجب أن نسأل شخص نجح وشخص فشل في المجال محل النقاش.

هل الوظيفة دخلها أعلى أم المشاريع؟

الوظيفة أم المشروع.. وسيلة للحصول على الدخل

بالتأكيد أن الجميع يتفق على أن الهدف الأول من أي وظيفة أو المشروع هو الحصول على دخل يضمن الحياة الكريمة، ويا سلام لو كان هذا الدخل يحقق الرفاهية. ينقسم الدخل إلى ثلاثة أقسام: دخل مرتفع، متوسط ومنخفض.

وإن كنت من ضمن الأشخاص الذين يبحثون عن الدخل العالي، فدعني أخبرك أن الكاتب الأمريكي براين ترايسي ذكر في كتابه Getting Rich in Your Own Way أن:

  • %74من المليونيرات العصاميين في أمريكا هم من أصحاب المشاريع (على الأغلب من لديهم موظفين يعملون بالنيابة عنهم).
  • و10% من المليونيرات العصاميين في أمريكا يشغلون وظائف عليا (رؤساء تنفيذيين وغيرها).
  • 10% منهم يشغلون أعمالا حرة مثل الأطباء الخاصين والمحامين والمهنيين الآخرين.
  • 5% هم من مستشارين البيع والبائعين.
  • 1% الأخيرة من مصادر أخرى مثل اليانصيب والمستثمرين في سوق أسهم والمخترعين والكتاب والمغنيين وغيرها.

ومع أن هذا الكتاب يعود إلى عام 2006 والِإحصائية أمريكية، إلا أنه إذا تأملنا الواقع سنجد أن معظم الأثرياء هم من أصحاب المشاريع ورجال الأعمال، فالنسبة قريبة إلى حد ما في بلداننا العربية. إذا الدفة تميل للمشاريع من ناحية الثراء، فنسبة أن يكون الموظف مليونير ضئيلة ولكنها لازالت ممكنة، ولكن ما يجعل الدفة متوازنة، هي إحدى الدراسات السابقة لمعهد إدارة المشاريع الأمريكي الذي وضح بأن 90% من المشاريع التجارية الجديدة تغلق في سنواتها الأولى! لذلك نرجع إلى قوانين الرياضة المالية: High Risk=High Return (كل ما زاد الخطر زاد العائد والعكس صحيح).

لذا إذا كان الهدف من الوظيفة هو الثراء، إما أن تكون من الأشخاص الـ 74% من أصحاب المشاريع وتخاطر بفشل المشروع بنسبة 90%، أو تبقى موظفًا وتحاول أن تتطور لتكون الرئيس التنفيذي للشركة أو تحصل على وظيفة عليا وتكون لديك نسبة نجاح 10% للوصول إلى الثراء!  

لا أتفق مقولة الممثل الأمريكي كيفن هارت: “‏راتبك هو تلك الرشوة التي تحصل عليها مقابل أن تنسى احلامك”، فأنا شخصيًا أعرف موظفًا يحصل على أكثر مما يحصل عليه أصحاب المشاريع الصغيرة! وغير بعض مدراء الشركات الكبرى الذين يستلمون رواتب بمئات الآلاف من الدولارات شهرياً.

ولكن إن كنت تبحث عن دخل مالي يضمن لك الحياة الكريمة، نستطيع أن نقول بأن الميزان متعادل بين الوظيفة والعمل الحر، وذلك إن فرضنا بأنك ستبادر في الوظيفة وتطور من نفسك وتحصل على راتب أعلى خلال فترة وظيفتك، وقد تصبح مديرًا، أو رئيس قسم مثلا، أو رئيس تنفيذي، وبالتالي تحصل على ميزات أكثر ودخل أعلى، ولكن هناك خطر أن تكون مقيدًا في الوظيفة ولا توجد فرص للتطور الوظيفي فتبقى واقفًا على سلم مكسور. أما من ناحية المشروع التجاري، قد تكون هناك فرصًا كثيرة من ناحية توسيع الفروع والانتشار محليا ودوليًا، ولكن كما ذكرنا، احتمال بأن تغلق المشروع خلال أول سنين هو 90%، يعني أن لديك 10% نسب نجاح في المشروع! وليس شرطًأ أن تحقق الثراء المالي أيضًا، فالعديد من المشاريع لم تتطور وبقيت كدخل إضافي، أو قد يغلق المشروع ويصبح صاحبها مديونًا، فأنا أعرف أحد الأشخاص الذين تمنوا لو أنهم لم يفتحوا مشروعًا بعد أن تراكمت عليه ديون بعشرات الآلاف!

هل الموظف عبد؟

العبودية للوظيفة والحرية للمشروع التجاري؟

في الكتب التي تحثك على الثراء وغيرها من كتب التنمية الذاتية، سترى دعمًا واسعًا لفكرة أن الوظيفة هي نوع من أنواع العبودية، وأن صاحب المشروع التجاري يملك الحرية المطلقة. أحد المساندين لهذه الفكرة من المشاهير العرب هو د.طارق سويدان الذي قال في إحدى محاضراته بأن “العبيد في السابق يطلق عليهم في وقتنا الحالي لقب موظفين، وأن الوظيفة تتنافى مع العقيدة لأن الموظف يبحث عن رضا مديره ولا يدعو الله بأن يرزقه!

أجد بأن هذه الفكرة متطرفة نوعًا وتتبنى مبادئ الرأسمالية (نظام اقتصادي يقوم على الملكية لوسائل الإنتاج وتعظيم الربح)، أولًا الموظف ليس عبدًا، فهو يذهب للعمل ويوقع على عقد يتضمن مسؤولياته ومهامه ليقوم بها في وقت معين ثم يغادر، كل ذلك حسب اختياره، وإن أراد أن يترك العمل فلا أحد يستطيع منعه، أما العبد فهو يعمل رغمًا عنه ووقتما ما أراد سيده.

ثانيًا، إذا أيدنا فكرتهم التي تقول بأن الموظف عبد لصاحب العمل، فصاحب العمل ايضًا لديه سجان، ألا وهو العميل، فإذا طلب منه العميل متطلبات فعليه أن يلبيها في الوقت المطلوب، وعليه أن يطاوع الموردين أيضًا، والسلطات المحلية، وأحيانًا أن يساير الموظفين، فاذا فرضنا بأن الموظف عبد، فصاحب العمل أيضًا عبد أكثر من الموظف من هذه الناحية!

سأقيس ذلك على نفسي، لقد عملت موظفًأ وكصاحب أعمال حرة وكصاحب مشروع تجاري، في الوقت الذي كنت فيه موظفًا كنت أطاوع المدير وصاحب الشركة، أما في الوقت الذي كنت أقوم بعمل حر كانوا العملاء هم من يتحكمون فيني حتى في أوقات إجازتي! صحيح بأن لدي مرونة أكثر كصاحب عمل حر، لكن إن اتصل بي وأنا مريض أو غير موجود فعلي أن ألبي طلبه في أسرع وقت! ففي كثير من الأحيان كنت ألغي بعض المشاريع والأمور الشخصية الهامة وذلك لأن العميل طلب مني تسليم مشروع في وقت معين أو كان العمل مستعجل ولا يوجد موظفين! قد تكون هناك حرية من ناحية اللبس ومرونة أكثر من ناحية العمل لصالح أصحاب المشاريع، ولكن الموظف الذي يعمل 8 ساعات يقابله صاحب عمل قد يعمل 16 ساعة!

دور كبير للشخصية في عملية التحديد

إن الشخصية تساهم بشكل كبير في الاختيار ما بين الوظيفة والمشاريع التجارية، فإذا كنت من الأشخاص الذين يحتاجون إلى إرشاد دائم في حياتهم، ولا يحبون أن يشتتوا أنفسهم بمهام كثيرة، والذين يفضلون العمل في وقت معين فقط، والذين يبحثون عن خيارات آمنة، فالوظيفة مناسبة لك.

أما إذا كنت من الأشخاص الذين يحبون مواجهة المخاطر ومواجهة الضغوط، ولديهم قدرة على العمل بعدة مهام مختلفة، والعمل بأوقات عمل طويلة جدًا بشغف، ولديهم روح القيادة وحب الحرية المطلقة، فالمشروع التجاري هو الأنسب لك.

إن النقطة المحورية هنا أننا خلقنا بصفات ومزايا معينة، فلا يستطيع الجميع أن يكونوا رجال أعمال، ولا يستطيع الكل في المقابل بأن يصبحوا موظفين. ثم إن فرضنا بأن الكل لديهم شركات، من سيعمل تحت هذه المشاريع؟ من سيعمل كمهندس؟ كطبيب؟ محاسب؟ مسوق؟ وإذا أصبح الجميع موظفين؟ من سيقودهم في هذه الشركات؟

لابد للإشارة أن العمل والحالة الاجتماعية تؤثر على عملية الاختيار، فمثلا شخص عشريني متخرج حديثًا من الجامعة ستكون له قدرة على المخاطرة أكثر من الأربعيني المتزوج ولديه 4 أولاد، كما أن الشهادة والتعليم الذاتي يدعمان الموضوع بشكل كبير.

مخاطر المشروع التجاري

القدرة على المخاطرة

مع إني لا أؤمن بأن هناك خيارات آمنة في الحياة، إلا أن الوظيفة تتسم بخيارات آمنة بنسبة أكبر من المشروع التجاري، راتب محدد وعمل محدد ثم انتهى. لا تزال تواجه مشاكل إفلاس الشركة، أو الاستغناء عنك، أو عدم تطورك وزيادة راتبك، ولكن ليس كالمشروع التجاري، كما أن الوظائف الحكومية تتسم بأعلى درجات الأمان الوظيفي، ولو أنها تتسم بضعف التطور على الصعيد المهني.

 أما من ناحية المشروع التجاري، فالبتأكيد أنت تواجه مخاطرًا أعلى مثل زيادة المنافسين، مشاكل الموظفين، إفلاس المشروع، تغيير الموردين، صعوبة الإنتاج وصعوبة الاستيراد، تغير أذواق المستهلكين وغيرها. يقول بيتر دراكر بأن المشروع التجاري يحتاج إلى 4 سنين لكي يحقق أرباح، وبالتالي تزداد المخاطرة على صاحب المشروع خلال هذه السنين.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2016، فإن متوسط عدد مرات الفشل المراد لتحقيق النجاح هو 10 مرات. ووجدت دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفارد أن رواد الأعمال الناجحين يفشلون في المتوسط 3.8 مرة قبل تحقيق النجاح. أما في مجال العلوم، فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن العلماء الناجحين يفشلون في المتوسط 7 مرات قبل نشر بحث ناجح. إذا كانت لديك القدرة على الفشل أكثر من 4 -10 مرات وتقبل الخسارة، فأهلا بك في عالم رواد الأعمال!

رأي الشرع

لم أجد تفضيلًا في الشرع حول مسألة تفضيل الرزق على عمل اليد، فمثلا حديث تسعة أعشار الرزق من التجارة حديث إسناده ضعيف. أما من ناحية المقارنة بينهما، أذكر هذا الحديث، عن رافع بن خديج، قال: قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور. كما قال عليه الصلاة والسلام أن خير الطعام من عمل اليد، وأن التاجر الأمين مع الكرام البررة يوم القيامة. وعمومًا الإسلام يذكر بأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، واليد العليا (التي تعطي) خير من اليد السفلى (التي تطلب)، غير أن نصف الخمسة من المبشرين بالجنة كانوا أثرياء، وبما أنه دين الوسطية وعدم المغالاة، يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.

الخلاصة

يجب أن ننظر إلى موضوع الاختيار بين الوظيفة والمشروع التجاري بنوع من الوسطية، فالمسألة بأجمعها هي عبارة عن وجهات نظر مختلفة. المشروع التجاري يناسب الأشخاص الباحثين عن الثروات والتحدي وأصحاب المخاطرة العالية ومتعددي المواهب والقدرات مع إمكانية مواجهة الضغوط العالية، أما الوظيفة فهي تناسب من يريد استلام دخل ثابت آخر الشهر ومن يبحث عن خيارات آمنة ولا يفضل التشتت بمهام ليست من تخصصه. لا توجد فكرة خاطئة أو صحيحة هنا، فكل ميسر لما خلق له، والخيار يرجع للشخص نفسه في النهاية.   

أضف تعليق